الصحراء الآن//

ذ. عبد الحليم الاكرارسي*

يعيش العالم بأسره، منذ متم سنة 2019، حربا ضروسا ضد عدو نانومتري أفلح في هزيمة أعتى الترسانات الحربية المتطورة، وتوارى عن أنظار أحدث وأدق أجهزة الرصد والمراقبة، وأخذ أحدث المنظومات الصحية على حين غرة، لتتساوى بذلك دول الجنوب بالشمال، وقوى الشرق بالغرب ! الكل يبحث عن سبيل للخلاص من شبح هذه الجائحة التي أرخت بظلالها على سائر دول المعمور. فقد تجاوز عدد الإصابات المؤكدة 4 ملايين، ونسبة فتك تناهز 7 في المائة. مما دفع كل المنظومات الصحية عبر العالم، وبتوجيهات من منظمة الصحة العالمية، إلى اعتماد الحجر الصحي كوسيلة وقائية للحد من انتشار هذا الوباء إلى حين توصل الخبراء والباحثين إلى لقاح فعال ضده. واعتمد المغرب بدوره هذا الإجراء بشكل استباقي منذ 20 مارس 2020، نظرا لضعف الإمكانيات الطبية المرصودة لمواجهة هذه الأزمة. وهو ما مكنه بالفعل من تجنب عواقب وخيمة لنا عليها في دول الجوار خير دليل وعبرة. لكن الفاتورة الاقتصادية والاجتماعية لهذا الإجراء ثقيلة جدا مقارنة بالإمكانيات الحالية وحتى المستقبلية للبلاد. فكل القطاعات دون استثناء تئن تحت وطأته. ولعل قطاع التعليم بشكل عام والتعليم العالي على وجه الخصوص يعاني بدوره في ظل هذه الأزمة الصحية.

فمنذ 20 مارس المنصرم، غادر الطلبة الجامعيون المدرجات وغادر التلاميذ والمتدربون قاعات الدروس وورشات التكوين. ليلتزمو بيوتهم ولتبدأ حلقة جديدة من حلقات المعاناة بالنسبة لهذه الشريحة من المجتمع التي يـعول عليها المغرب لتحقيق نموه وازدهاره.

فنظرا لضبابية الرؤيا التي اتسمت بها الأسابيع الثلاث التي سبقت الحجر الصحي، لم يتأتى لأي فاعل من فاعلي المنظومة التربوية التفكير في كيفية تدبير المرحلة، وأي آليات يمكن تسخيرها لتحقيق الاستمرارية البيداغوجية في ظل إجراءات التباعد الاجتماعي الحالية. أضف إلى ذلك، شبه غياب الوسائل اللوجستية التي من شأنها أن تيسر عملية التلقين عن بعد. لتفسح المجال بذلك للارتجال والخبط عشواء.

التعليم العالي عن بعد بالمغرب: قبيل كورونا

لقد قطع المغرب أشواطا مهمة في مسيرة إصلاح منظومته التعليمية، وقع في مجموعة من المطبات وحقق العديد من المكتسبات. فلا أحد ينكر ما تم بذله من مجهودات في سبيل توفير البنية التحتية للتكوين من جامعات ومعاهد متخصصة ومكتبات تابعة للقطاع العام. وفسح المجال كذلك أمام القطاع الخاص بإمكاناته وإمكانيته كشريك استراتيجي من أجل الرفع من جودة التعليم العالي بالمغرب.

وقد بدأ المغرب بالتفكير جديا منذ بضع سنوات في إرساء دعائم نمط جديد من التعليم عن بعد، فرضه واقع الحال خاصة بالقطاع العام. إذ يعاني هذا الأخير وخاصة في المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح (كليات الحقوق، كليات الآداب، كليات العلوم) من مشكل الاكتضاد بسبب ضعف الطاقة الاستيعابية للمؤسسات مقارنة بعدد الطلبة الوافدين، وضعف نسبة التأطير بسبب قلة الأطر التربوية (أساتذة وإداريين). هذا النمط من التعليم كان محل جدل واسع في الوسط الأكاديمي، فمن المتشددين من يعتبره الرصاصة الأخيرة للإجهاز على التعليم العالي بالمغرب، وهناك من يعتبره هدفا بعيد المرام بحكم أن الجزء الكبير من مساره المهني قد قضاه في التعليم الحضوري، وأن الاستثمار في هذا النمط الجديد يتطلب مجهودا فكريا وتقنيا كبيرا قد لا يكون منه طائل. وهناك آخرون أخذو بزمام المبادرة وخاضوا التجربة وعبروا عن ارتياحهم للنتائج التي تم التوصل إليها في ظل محدودية الإمكانيات.

وقد قامت الوزارة الوصية بإنشاء المركز الوطني للتجديد التربوي والتجريب من أجل إعداد مشاريع التكوين عن بعد باستعمال التكنولوجيات الجديدة للاتصال، كما وضعت بعض الجامعات المغربية رهن إشارة أطرها التربوية منصات إلكترونية تمكنهم من التواصل مع الطلبة وتحميل المضامين البيداغوجية عبر الشبكة العنكبوتية، كما تم تزويد بعض المؤسسات الجامعية باستوديوهات مجهزة من أجل إعداد مضامين بيداغوجية مصورة بتقنية عالية.

وفي إطار هذه الدينامية - التي بدأ يشهدها الوسط الجامعي من اعتماد التكنولوجيات الحديثة في التلقين، واستحسان الطلبة لها لكونها مكملا مهما للدروس الحضورية وقناتا للتواصل فيما بينهم وكذا مع أساتذتهم، ووسيلة فعالة وناجعة بالنسبة للأساتذة للوقوف على المستوى الحقيقي لطلبتهم، عبر إجراء اختبارات مستمرة يتم تصحيحها آليا وبكل موضوعية، - يجد الكل نفسه، بين عشية وضحاها، مرغما على استعمال هذه الوسائل الحديثة سواءا من أجل التعليم أو التعلم شاء أم أبى، أستطاع أو لم يستطع!! نعم إنها إرادة الحجر الصحي...

التعليم العالي عن بعد بالمغرب في زمن كورونا: المفترض...

المفترض أن اعتماد وسائل التعليم عن بعد بالوسط الجامعي سيمكن من تحقيق استمرارية بيداغوجية في فترة الحجر الصحي التي نعيشها منذ 20 مارس المنصرم. أي أن الأطر التربوية ستتمكن من مواصلة التلقين باستعمال قناة افتراضية توصل الصوت والصورة متزامنين للمتلقي، من أجل بلوغ الأهداف البيداغوجية المتوخاة من كل حصة ومن كل مجزوءة ومن كل وحدة وهكذا دواليك إلى أن يتم تمرير البرنامج البيداغوجي بكل سلاسة وفي إطار تفاعلي بين مختلف مكونات العملية التعليمية التعلمية.

المفترض كذلك، أن جميع الأطر التربوية التي تشتغل بقطاع التعليم العالي (الأساتذة والمشرفين على الأشغال التطبيقية)، قد حصلوا على التكوين اللازم من أجل الاستعمال الفعال والسليم لهذه الوسائل التقنية الجديدة. وفي نفس السياق، يفترض كذلك أن الطلبة استفادوا من تكوين يمكنهم من التعامل مع منصات التعلم عن بعد باعتبارهم المستخدم والمستفيد الأول والأخير من خدماتها.

المفترض أيضا أن كل المدخلين في عملية التعليم عن بعد يتوفرون على الوسائل اللوجستية الضرورية التي تمكنهم من التلقين والتلقي في ظروف جيدة. بالنسبة للأستاذ، حاسوب أو حاسوب لوحي بخصائص معينة، تمكنه من إعداد وتمرير المضامين البيداغوجية بدون مشاكل تقنية، مع حماية لمعطياته الشخصية من مختلف الأخطار التي تنجم عن الارتباط بالشبكة العنكبوتية وأخص هنا بالذكر الهجمات السبرانية الرامية سواء إلى قرصنة المضامين أو الاطلاع على محتويات الاختبارات أو الولوج عن بعد إلى كاميرا الحاسوب أو إلى بعض الأجهزة الأخرى المرتبطة به. كذلك الأستاذ في حاجة إلى ارتباط بشبكة الأنترنت بصبيب عالي وتابث (12 ميغا على الأقل) يمكنه من مباشرة الدروس التفاعلية مع الطلبة في ظروف جيدة، ويمكن أفراد أسرته – الأبناء والزوج(ة)- من القيام بأنشطتهم اليومية – دراسة أو عمل عن بعد – بشكل سلس. المفترض كذلك أن الأستاذ يتوفر على ركن خاص بالتلقين داخل بيته، معزول عن جميع عناصر التشويش حتى يتمكن من أداء مهمته البيداغوجية على أكمل وجه.

في المقابل، يفترض كذلك أن الطالب يتوفر على حاسوب أو حاسوب لوحي بمواصفات عادية تمكنه من الارتباط بشبكة الأنترنت، ومتابعة الدروس عبر المنصات التفاعلية، إضافة إلى ارتباط بالشبكة العنكبوتية بصبيب تابث (4 ميغا على الأقل) يمكنه من متابعة الحصص المبرمجة بشكل متواصل والتفاعل مع أساتذته إن دعت الضرورة إلى ذلك. المفترض كذلك أن كل طالب يتوفر على ركن هادئ خاص به لمتابعة دروسه عن بعد.

والمفترض أخيرا، أن هناك إرادة مشتركة وقوية لجميع الفاعلين من أجل إنجاح العملية التعلمية عن بعد، وتحويل مرحلة الأزمة هذه إلى معسكر للإصلاح وإبداء الآراء والمقترحات الكفيلة بتطوير وتحديث منظومتنا التعليمية.

والواقع أن...

التعليم العالي عن بعد بالمغرب في زمن كورونا: الواقع...

إن الشيء الإيجابي الذي يثلج الصدر في خضم هذه الازمة، ويطابق فيه المفترض الواقع، هو وجود إرادة كبيرة لدى المتدخلين في العملية التعليمية من أجل تقديم الرسالة البيداغوجية في أبهى حلة بالرغم من كل المعيقات. فمنذ الأيام الأولى للإعلان عن حالة الحجر الصحي ببلادنا، بادر الأساتذة إلى التواصل مع طلبتهم، عبر مختلف وسائل الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي، وذلك من أجل طمأنتهم ومواكبتهم في ظل ظروف التباعد الاجتماعي التي فرضها الحجر الصحي. كما هرعت المؤسسات الجامعية إلى تجميع مختلف المضامين البيداغوجية بمختلف صيغها لوضعها على صفحاتها الرسمية، ليسهل الولوج إليها ليس فقط من طرف طلبة هذه المؤسسات، بل كل الطلبة على الصعيد الوطني. كما انخرط الأساتذة بشكل تطوعي في إعداد كبسولات مصورة تشرح لزملائهم كيفية التعامل مع منصات التعليم عن بعد. كما انخرط المشهد الإعلامي بإيجابية كبيرة، حيث خصصت الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة قناة "الرياضية" لبث دروس التعليم العالي لمختلف المستويات والتخصصات، كخطوة لخلق نوع من تكافؤ الفرص في الوصول إلى المعلومة...

في المقابل، فالتعليم عن بعد بالمغرب في فترة الحجر كشف عن نواقص أخرى يجب إضافتها إلى نواقص التعليم الحضوري لبلورة حلول جدرية ونهائية في إطار منظومة مندمجة ومتكاملة.

فالواقع أبان أن الأساتذة يتوفرون على الوسائل اللوجستية الضرورية للنهوض بالمهمة المنوطة بهم على أكمل وجل. فربما مشكلة الموارد تصبح متجاوزة عندما يتعلق الأمر بأستاذ التعليم العالي، أي أن الأجرة التي يتقاضاها تمكنه نوعا ما من توفير حاسوب متطور وارتباط بالأنترنيت بصبيب عالي وتابث (وهنا لا نعمم)، إلا أن أغلب الأساتذة يعانون من نقص في التكوين المرتبط باستعمال منصات التعليم عن بعد، بحكم أن جلهم لم يسبق له أن تدرب عليها قبل فترة الحجر الصحي.

والواقع كشف أيضا، أن معظم الطلبة لا يتوفرون على الوسائل اللوجستية الضرورية من حواسيب، وهواتف ذكية وأنترنيت لمتابعة الدروس المبرمجة. وهنا الطامة الكبرى، طلبة ينحدرون من مناطق نائية، فرضت عليهم ظروف الحجر الالتحاق بذويهم بعد أن أغلقت الأحياء الجامعية أبوابها، فهؤلاء يقتصرون على ما تبته القنوات التلفزية من مواد قد تفيدهم في بعض الأحيان، وقد تكون دون فائدة في أحيان كثيرة. أضف إلى ذلك الظروف التقنية التي تم فيها تصوير هذه الدروس، مما يجعل جودتها لا تفي بالغرض.

أما الشريحة المحظوظة التي تسكن المدن وضواحيها فتنقسم إلى قسمين، أصغرهما من الطبقة المتوسطة أو الميسورة التي تتوفر على ظروف اشتغال توازي ظروف اشتغال الأستاذ وقد تفوقها أحينا كما وكيفا، وهذه بالنسبة لنا شريحة يطابق فيها المفترض الواقع ولا تطرح إشكالا البتة.

أما الشريحة الأخرى المتبقية فتعاني الأمرين في سبيل التحصيل الدراسي عن بعد. فمن هؤلاء الطلبة من لا يتوفر على حاسوب أو هاتف ذكي أو أن هناك حاسوبا واحدا يتم استعماله بالتناوب من طرف مجموعة من الأفراد داخل نفس الأسرة مع كل ما يمكن أن يسببه ذلك من ضياع للوقت وفقدان للتركيز. ناهيك عن ضعف الارتباط بشبكة الأنترنيت، حيث أن أغلب الطلبة يستعملون التعبئة المسبقة الدفع لتوفير الانترنت، وكما لا يخفى على علم أحد أن هذه الصيغة توفر صبيبا جد هزيل لا يمكن من متابعة الدروس التفاعلية بشكل جيد، ويضرب في صميم تكافؤ الفرص بين الطلبة. الشيء يحد من فعالية التعليم عن بعد ويجعل مجهودات كل الفاعلين تذهب في مهب الريح. 

هذه الهوة بين المفترض والواقع كشفتها كورونا، مشكورة، معلنة أن معركة ما بعد كورونا لا تقتصر فقط على مواصلة بناء وتشيد الصروح المعرفية، وإنما معركة إرادة وابتكار وتطوير من أجل بناء مغرب الغد مغرب الرقي والازدهار.   

*

• أسـتـاذ بـاحـث في العلوم الاقتصادية والتسيير

• كلية العلوم القانونية والاقصادية والاجتماعية – السويسي - جامعة محمد الخامس بالرباط

• عضو دائم بالمركز متعدد التخصصات للبحث في حسن الاداء والتنافسية – جامعة محمد الخامس بالرباط



مواضيع قد تعجبك